كُتاب الرأي

وهم العين والحسد: فقاعة كبيرة تمزق علاقاتنا

الدكتورة / سارة الأزوري

وهم العين والحسد: فقاعة كبيرة تمزق علاقاتنا

فيما مضى، كان أجدادنا يعيشون بركة الرضا، رغم قلة ذات اليد وضيق الحال. كانوا يتقاسمون الرغيف والفرحة، يرون البلاء صقلًا للنفس، والرزق قسمةً من الله، لا يخشون الحسد ولا يتهمون العين بكل سوء.

أما اليوم، فنحن نعيش في زمن الوفرة والخيارات، ومع ذلك تسكننا أوهام الحسد والعيون، حتى صارت شماعةً نعلق عليها كل تعثر أو مرض أو فشل. والعجيب أن كثيرًا ممن يعيشون في ضيق الحال هم أكثر الناس خشيةً من الحسد! يخافون على لقمةٍ بسيطة أو ستر حالٍ متواضع، وكأنهم صاروا يصدقون أن النعمة مهما صغرت قد تستفز العيون! وعلى قول المثل: “وش يأخذ الريح من البلاط؟”

تسأل نفسك: على ماذا يُحسد هؤلاء؟ أليس الحسد مرتبطًا بالطمع في النعمة؟ فكيف يُحسد من بالكاد يسد رمقه؟

وفي المقابل، تجد بعضًا ممن يعيشون في رخاء واسع يكثرون من الحديث عن الحسد، ويتوهمون أن كل نظرةٍ عابرة وكل كلمةٍ عفوية هي “عين”. تناقض صارخ بين ما نملكه وما نخشى فقدانه! كم من علاقات تقطعت بسبب هذه الأوهام؟ وكم من قلوب تشوهت بظنون لا أصل لها؟

حتى الأمور العادية لم تسلم من هذه الأوهام. بل إن البعض يعزون أي وعكة صحية، أو تعثر بسيط، إلى “العين”. فما أن يُشاك أحدهم بشوكة، إلا وقال: “حسدوني، أو أصابوني بعين.” حتى بات بعض النساء يربين أولادهن على هذه الفكرة، فتقول إحداهن: “جدتي محسودة، وأورثتنا العين والحسد في أنفسنا وأبنائنا!” هكذا تكبر الأوهام وتترسخ، فتتحول إلى عادةٍ تنهك النفوس وتفسد القلوب.

ومن الأمور العجيبة، أن إحداهن، وقد وصلت إلى مرحلة عالية من العلم، حضرت حفل تكريم ابنتها المتفوقة بين مجموعة من الطالبات. بعد الحفل، ومع الإرهاق والتوتر وقلة النوم، شعرت الفتاة بالإعياء وأصابتها نوبة من الدوار. فما كان من الأم، في تلك اللحظة، إلا أن صرخت في الحاضرات: “اذكروا الله! لن تخرج أي واحدة منكن إلا بعد أن تتوضأ!” وكأن الفتاة وحدها محور كل العيون، مع أن الحفل كان مليئًا بالمتفوقات، ولم تكن الفتاة ملفتة بالشكل الذي يسترعي الانتباه. ومع ذلك، غلب وهم الحسد على المنطق، وطغى على الحقيقة الواضحة: الإرهاق وقلة النوم والتوتر.

الحقيقة أن هذه الأوهام ولدت من ضعف التوكل على الله، وقلة الشكر، وسوء الظن بالناس. بتنا نربط كل إخفاقٍ بغيرنا، وكل تعبٍ بعين الآخرين، ناسين أن الأقدار كلها بيد الله وحده.

نعم، العين حق، والحسد مذكور، لكنهما ليسا مبررًا لكل سوء يحدث في حياتنا. ولا يجوز أن نعلقهما شماعة لكل إخفاق أو مرض أو فشل. من عاش أسيرًا لوهم الحسد، أوالعين، سيعيش متوترًا مرتابًا من الجميع، فاقدًا لراحة القلب.

فلنحرر عقولنا من هذا الوهم، ولنزرع يقينًا راسخًا بأن الرزق بيد الله، وأن البلاء والفرح من عنده. وكما يقولون: “لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر.” فلنعمل ونرضَ، ونبني حياتنا على الثقة بالله بدلًا من مطاردة سراب العين والحسد.

كاتبة رأي

 

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

‫20 تعليقات

  1. كلام جميل د/ساره الأزوري العين والحسد حقيقه وليس وهم لكن يجب علينا التوكل على الله وعدم التركيز فيها لأتفه الأسباب .

    1. العين حق كما أخبرنا النبي ﷺ، لكن التوكل على الله يحصّن القلب ويطمئن النفس، فلا نُفرّط بالخوف ولا نتغافل عن التحصين. التوازن هو السر.

  2. مبدعة دكتوره سارة فعلا افكار الناس أصبح الحسد والعين وهما لكل مايحدث لهم وقلة ايمان بالله هذي اقدار كتبها الله
    نسأل الله رب العرش العظيم ان يحفظنا ويحفظكم والمسلمين

    1. أستاذة منيرةصدقتِ، صار كثير من الناس يفسّر كل شيء بالحسد والعين، وينسون أن البلاء قد يكون رفعة أو اختبار، وكل ما يصيبنا بقدر من الله

  3. الدكتورة سارة ذكرت هنا موضوع جدا ارهق الناس وبسببه اصبح الشخص عايش في توتر دائم وعدم راحة واصبحت الشكوك تملئ عقلة وفكرة
    والعلاقات الإجتماعية تقطعت
    والشيطان والوسوسة أصبحت هي المتحكم الرئيسي في الشخص

    1. لانضب مدادك المدرار أختي المبدعة
      د/ سارة
      أحسنت التأمل في هذه المعضلة المُهلكة لعلاقات القلوب بين أفراد المجتمع الصغير والكبير .
      دمت نافعة مُباركة

      1. شكرًا لجميل لطفك، أسأل الله أن يرزقكِ نور البصيرة وسلامة القلب،
        وأن يديم بيننا الكلمة الطيبة التي تُحيي الأرواح وتُصلح ما فسد من القلوب.

    2. نعم، كثُر التعلُّق بالحسد والعين حتى غابت الطمأنينة، وسيطرت الوساوس وفسدت العلاقات.
      ولا نجاة إلا بالتوكل على الله، وحسن الظن به، والتحصن بالإيمان والذكر.

  4. بوركت دكتورة سارة الأزوري لهذا الحديث ✍🏻قلم ينبض إيمانا ويقينا بأن الذات مصونة بإدراك حقيقة أقدار الله ولطفه، لتحيينا على الثبات والتوكل، وتوفظ صوت الوعي والهدوء

    1. السلام عليكم ورحمة وبركاته
      كلام جميل
      اتمنا الناس يكون عندها وعي ويبطلون يخرجون خير ماعندهم لناس وتصوير اكلهم ومقتنياتهم
      وسال الله العظيم رب العرش آلعظيم أنه يحفظنا ويحفظكم ويحفظ كل مسلم يقول لا إله إلا الله

      1. مبدعة دكتوره سارة فعلا افكار الناس أصبح الحسد والعين وهما لكل مايحدث لهم وقلة ايمان بالله هذي اقدار كتبها الله
        نسأل الله رب العرش العظيم ان يحفظنا ويحفظكم والمسلمين

    2. بوركت مشاعرك أستاذة شوقية، فما أجمل أن يلتقي الوعي بالإيمان فيحمل القلم رسائل نور، تُعيد ترتيب الفوضى في النفوس.

  5. وهم العين فعلا حالة معشعشة في الذاكرة العربية والشعبية خاصة ، إلى درجة نصبح في كثير من اللقاءات أو التجمعات نشعر كأن العين والحسد في كل وجه وعلى مل لسان. ويتبعها أمر ونهي وغلظة في ردة الفعل. غير المنطقية ، أحيانا يفقد الوعي في التعامل مع الموقف ، صحيح العين والحسد أمر وارد وقد تعامل معها المنهج النبوي بمنطقية ، لكن ما يحدث يفوق التصور كما دللت الكاتبة من مشاهداتها الفعلية المقنعة. ، أحيانا الشخص المعني ما فيه شي يميزه حتى يحسد أو يصاب بالعين ، ومن يعترض من حضور. الحالة. يقف منه موقف سلبي لأنه لم يؤيد ولم يتفاعل مع الحدث. وهنا الكارثة مصادرة الاختلاف وتعميق ثقافة الوهم ، لم ينظر إلي ما يحدث هو مرض. قد يصيب في أي وقت ….شكرا د سارة علي طرح الفكرة بأسلوب استنكاري راق

    1. تحليل دقيق وناضج دكتورة عائشة فقد تحوّلت هذه الظاهرة إلى ثقافة مُرهقة تستنزف العلاقات والعقول، وما بين التهويل والتصديق المطلق، غابت مساحة الوعي والتفكير المنطقي. شكرًا لإضاءتك التي تُكمل الفكرة وتفتح بابًا للحوار الواعي البعيد عن التشنج والخوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى