( موسيقى الشعر )

( موسيقى الشعر )
بيت القصيدة عادةً هو اللبنة الأساسية التي تقوم القصيدة عليه ! وبه تصبح قصيدة شعرية فارعة الطول ، شامخة الرأس ، ماخرة الحسن ، كالعروس المأنوسة ، والشجرة المثمرة ، واللوحة البارعة ! والمنظر الفاتن !
و الحروف والجمل والكلمات المرصوصة لا تصنع بيتاً شعرياً ! فضلاً أنها تصنع قصيدة ! كما أن الألوان الجميلة لا تصنع لوحة ! والتراب والرمل والحجارة لا تصنع قصراً جميلاً وارفاً ! ولا جمال في جمع حبوب مبعثرة ! وحجارة منتشرة ! وهنا تأتي موهبة الموهوب ، وحذاقة الحاذق ، ومصنعية الصانع ، ومهارة الماهر ، وهندسة الفنان ، وشاعرية الشعر ، لتصنع من ذلك كله آيات الجمال ، ومزارع الفتنة ! .
والمطلع في القصيدة كوجهة المرأة للمرأة ، والزينة للعروس ، والشجاعة للرجل ، لا ينفك حسنها عن حسنه ، ولا جزالتها عن جزالته ، ولا عجائبها عن عجائبه ، وإذا كانت القصيدة والمطلع كالجسد واللباس ، فإن جمال اللباس وفتنته يشي بجسد ساحر .لذا كان البيت الأول هو التعريف الحقيقي للقصيدة ، وجواز عبورها إلى أذهان الناس وقلوبهم ، وهو الذي يتردد في النفس طالت القصيدة أم قصرت !
وتولد القصيدة من رحم الألم والأمل ، وهذان وقود وقوة الشعر والشاعرية ، أريتم رغيف الخبز الذي ينضج بين ضرام النار ، ومهارة الخباز ؟! الذي يعرض كفايته وحاجته من النار ! فإن زادت أحترق ! وإن قلت لم يستو !
هذه شاعرية الشعرية التي نعنيها !
عندما يتحدث المتحدث بكلام مفهوم وبأسلوب واضح ، يصل إلى الناس لوضوحه ، وسهولته ، وللغاية التي يتحدث فيها ولها ، فإن تحدث بكلام غير محدد ولا واضح ، ولا اتخذ أسلوبا جميلاً ولائقاً ، فإن جميع الناس ينفرون منه ، بل قد يسرع أحدهم بالاتصال بأقرب مصحة لعلاجه .
هكذا الشعر ، التصوير القائم والصادق عن الكون والحياة والإنسان تصويراً مؤثراً في النفوس ، متنقلاً بها بين أمواج الحياة الزاخرة ، وبيدها وزروعها ، وصباحاتها ومساءتها ، وليلها ونهارها ، وذراها وسفوحها ، فإن استطاعت شاعرية الشعر أن تحدد هدفها فموضوعها فأسلوبها ، اهتز الحجر ، وتسامى المدر ، والتفت الأفنان على الأفنان ، والكلام على اللسان ، والأجواء على الأرجاء ، وفعلت في السامع والقارئ فعل ماء النهر الجاري بالروض ، والحياة بالأشجار اليابسة . والسماء الممطرة بالبيداء المقفرة .
وهنا يأتي دور الروح الداخلية في الشعر ألا وهي
( الموسيقى ) ! فالنظام الذي ينظم هذا النظم النفيس ، والقانون الذي يرسم حدوده ، وأفقه وسماءه .ولا يوجد فن في الدنيا لا يحكمه قانون و أسس ونظام .
ومهما أسرف بعض الناس في القول أن الرقص هو المشي أو المشي هو الرقص ، فإنه يبقى المشي مشياً ، والرقص رقصاً !ولا تعلم العقول جوراً في فن من الفنون كجور أدعياء النثر الذي زوجوه بالشعر ، بل سلبوا الشعر خصائصه وألبسوه النثر ، وشعرروا النثر ، ففقدوا النثر ولم يصلوا ضفاف مدينة الشعر .
في دنيا الفوضى لا تكاد ترى للعقل مكان ، وقد تقترب الحدود والفواصل الدقيقة بين فن وآخر ، لكنه يبقى كل فن يعبر عن نفسه ، ومهما زادت العواصف فخلطت الأوراق فإن لكن فن لونا ، ولكل لون أصول وقواعد ونظام .
القانون الذي يحكم الشعر هو الأوزان الموسيقية التي لا يخرج عنها ، وإن خرج عن هذا القانون فإن على أصحابه أن يسموه أي شيء إلا الشعر ! .
بعض الشعر في شعره دون مستوى الشعر ، ولكي يستر سوأته ، يتدثر بالخروج على الأوزان المألوفة ، ويرى هذا فناً وفتحاً ونصراً وتجديداً ، واكتشافاً لم يسبق إليه فيهرع لكي يسجله باسمه ! وبعضهم نضب معينه فهرع إلى هذا الخروج .
هذه الصور التي يقدمها الشعر ، تقدم للشباب ، قليل التجربة ، هزيل البضاعة ، وكليل النظرة ، خفيف الموهبة ، فينطلق دون هدف ، ويهتز دون ارتكاز ، ويبحر دون خارطة ، حتى لا يعرف اتجاه الشواطئ وراء هذه الأمواج الهادرة، فيبقى حائراً ، يصرخ تارة ، وينادي على الذين ألقوه في اللجة تارات .
ومهما تفلسف الرجل العامي في أمور الحياة المختلفة ، وأبدى وجهة نظرة ، فإن النظام الساري هو النظام والقانون هو القانون .
وقد يريد هذه الرجل أن يقود سيارته دون رخصة قيادة لأوقفه رجل المرور وقال له : هل لديك رخصة قيادة ؟ هل تعرف قواعد السير ؟
إننا في حياتنا اليومية نرى أن كل شيء يسير بنظام صارم ، فهنا نظام خدمة ، وهناك نظام مرور ، وهذا نظام الأوراق النقدية ، بل حتى على مستوى الألعاب لا يمنح اللاعب حق اللعب في لعبة ما ، حتى يتعرف على نظامها ، وقواعدها ، وأصولها ، ويتم التأكد من موهبته وميوله ، ومما يذكر الناس في هذا الزمان ولا ينسوه أبداً أن العبارة المكتوبة في قاعة الأمم المتحدة في نيويورك تقول : ( النظام قانون السماء ..).
المصلح والمستشار الأسري
د. سالم بن رزيق بن عوض
