كُتاب الرأي

مزرعة الحسناء في عنيزة

محمد يوسف الخشيبان

مزرعة الحسناء في عنيزة

نموذج سعودي للزراعة البيئية المتكاملة وربطها بالممارسات العالمية

في عمق قلب منطقة القصيم، تحديدًا بعنيزه تقع مزرعة الحسناء، تحت إشراف العم خشيبان أبو شايع، وتتميز هذه المزرعة بقدرتها الفريدة على الدمج بين الموروث الزراعي المحلي للقصيم والمفاهيم العلمية الحديثة في إدارة المنظومات البيئية العالمية.

يُجسّد العم أبو شايع فهمًا عميقًا للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويتعامل مع الأرض ككائن حي يحتاج إلى توازن ورعاية. وأحد أبرز أساليبه التقليدية ذات العمق البيئي هو استخدام القنفذ كمُتحكِّم طبيعي في أعداد الثعابين والعقارب، ما يُعرف علميًا بمصطلح “Biological Controller”.
هذا الأسلوب يُمارس في أنظمة الزراعة العضوية حول العالم، وهو من الركائز الأساسية للزراعة المستدامة الحديثة. تُعدّ هذه المقاربة البيئية امتدادًا لحكمة الأجداد الذين كانوا يوازنون بين الإنتاج وحماية البيئة.
فالزراعة في القصيم تُشكّل ثقافة وهوية، ليس فقط مجرد إنتاج غذائي، وهذا ما تعكسه مزرعة الحسناء بعمق. في ظل تحديات التغير المناخي، تُقدِّم المزرعة نموذجًا فعّالًا لخفض الانبعاثات الكربونية عبر أساليب زراعة عضوية غير مكثفة.
أشجار النخيل في المزرعة تعمل كأحواض كربون تمتص ثاني أكسيد الكربون من الجو وتُحسِّن جودة الهواء. الرعي الطبيعي للماشية باستخدام مخلفات الأكل يخلق دورة غذائية مكتملة، تقلل من الاعتماد على الأعلاف المستوردة وتقلل البصمة الكربونية.

أثناء تواجدي بالقصيم مؤخرا أجريت أستبيان ضخم لطرق تعامل “القصمان” مع مزارعهم، تحديدا أهل مدينة عنيزه ومن الأمثلة الأخرى اللتي تتشارك بها المزارع القصيمية ومزرعة الحسناء بالتعامل مع النظم البيئية اللتي أكتشفتها اثناء بحثي بالتاريخ الزراعي بالمنطقة:

١- استخدام القنفذ كمُتحكِّم طبيعي في أعداد الثعابين والعقارب، ما يُعرف علميًا بمصطلح “Biological Controller”.
هذه الفكرة تعكس فهمًا عميقًا لـ”سلاسل الغذاء” وكيف يمكن للبيئة أن تنظّم نفسها دون تدخلات كيماوية.

٢- نثر الرماد الطبيعي حول جذوع الأشجار، لمنع النمل الأبيض والحشرات الضارة دون الحاجة لأي مبيدات سامة.

٣- نقع الثوم والفلفل الحار في الماء لصنع مبيد طبيعي يُرش على المزروعات لطرد الحشرات، وهي تقنية عضوية توجد أيضا في مزارع جنوب شرق آسيا.

٤- زراعة الريحان والنعناع بين أشجار النخيل لطرد الذباب والبعوض بشكل طبيعي، وهي طريقة تُستخدم أيضًا في مزارع فرنسية عضوية.

٥- جمع مخلفات الماشية وتُستخدم كـ سماد عضوي طبيعي، دون الحاجة لأي أسمدة صناعية.

٦- تُزرع نباتات معينة (مثل البرسيم) تُحرث في التربة لتعزيز محتواها من النيتروجين بشكل طبيعي.

ثقافة القصيم الزراعية تُلهم العالم في كيفية العيش بتوازن مع الصحراء، فالدمج بين هذه الثقافة وأساليب الزراعة الحديثة يُقدِّم خريطة طريق فريدة لتحقيق الاستدامة في البيئات القاحلة. والممارسات الزراعية في مزرعة الحسناء تُعتبر شكلًا من “الزراعة التجديدية” التي تسعى لإعادة بناء التربة وتحسين صحة النظام البيئي. وأثر الحسناء يتعدى حدودها الجغرافية، إذ باتت محطة تعليمية للأجيال مثلي تمامًا، حيث كان مجلس المزرعة دائما يكاد لا يخلو من النقاشات ذات الشأن البيئي والعلمي. أصبحت الحسناء منصة لتبادل المعرفة بين الأجيال.
الوعي البيئي الذي تزرعه هذه المزرعة وبقية مزارع القصيم يساهم في تعزيز الأمن الغذائي الوطني عبر إنتاج غذاء نقي بأقل تكلفة بيئية، وبما أن الزراعة مسؤولة عن معالجة جزء كبير من الانبعاثات الكربونية عالميًا، فإن استراتيجيات الحسناء تُشكل خط دفاع حيوي ضد تغير المناخ، فكل شجرة تُزرع هناك تُسهم في تقليل ثاني أكسيد الكربون.

أجريت انا وباحثون من أنحاء العالم مقارنة بين الحسناء ومزارع في إيطاليا وإسبانيا وأسيا تستخدم الأساليب العضوية التقليدية، ووجدنا تطابقًا مذهلًا في الفلسفة. هذا يدل على أن الحكمة القصيمية ليست بدائية، بل متقدمة بما يكفي لتُقارن عالميًا.

كاتب رأي

 

 

محمد يوسف الخشيبان

باحث وكاتب رأي

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى