مردوخ وإعلام الإبادة

محمد الفريدي
مردوخ وإعلام الإبادة
كنت أتنقل بين القنوات قبل أيام، دون أن يحمل المزاج رغبة في الكتابة، حتى توقفت أمام برنامج وثائقي على شاشة “الجزيرة الثقافية” يحمل عنوان (آل مردوخ .. إمبراطورية النفوذ).
لم أكن أنوي المتابعة، لكن شيئاً ما في نبرة المعلّق، وفي تتابع الصور، جعلني أؤخّر إمساك الريموت.
دقائق قليلة كانت كافية لأجد نفسي غارقاً في عالم روبرت مردوخ، إمبراطور الإعلام في العالم، لا كاسمٍ مرّ على الأخبار من قبل، بل كقصة متقنة الإخراج عن رجل يعرف كيف تُصنع الأكاذيب، وكيف يُعاد تشكيل الحقائق.
كانت الحكاية تُروى لا كمسيرة صحفي أو كمالك صحف وقنوات، بل كرحلة صعود نحو امتلاك أوسع نفوذ إعلامي في الغرب.
لم يكن مجرد ناقل أخبار، بل مهندس حبكات وأجندات.
رجل يتنقل بين استوديوهاته كما يتنقل القائد بين خنادق معاركه؛ يُعدّل العناوين، ويُملي السياسات، ويوجّه الكاميرات لتلتقط ما يخدم مشروعه، لا ما يخدم الحقيقة.
في كل مشهد، كنت أشعر أن هذا الرجل لا يكتفي بتفسير العالم، بل يعيد صناعته: بالصوت، وبالصورة، وبالكلمة.
ما يُعرض على شاشاته لا يُقدَّم كوجهة نظر، بل كحقيقة مطلقة لا تحتمل النقاش.
ففهمت كيف يمكن لآلة إعلامية أن تُلبس الاحتلال الصهيوني قناع الدفاع عن النفس، وتُحوّل الضحية إلى إرهابي، وتُعيد رسم خريطة الأخلاق كما تشاء.
روبرت مردوخ لم يكن مجرد رجل إعلام، بل كان وما زال أحد أخطر صناع الرأي العام في العصر الحديث، إذ إن إمبراطوريته الإعلامية، التي تمتد من أمريكا إلى بريطانيا وأستراليا، لم تكن يوماً محايدة، بل خضعت لأجندة واضحة تقوم على دعم إسرائيل، وتلميع صورتها، وتشويه صورة الفلسطينيين والعرب.
لم يكن مردوخ ينقل الأخبار، بل يصنعها على مقاس المشروع الصهيوني، ويوجه بها عقول الملايين نحو الكذبة الكبرى التي هي أن الاحتلال يدافع عن نفسه، وأن الشعب الفلسطيني الأعزل إرهابي.
كان يضع السيناريو، ويوزع الأدوار، ويختار اللقطات، ويُقصي الأصوات التي تفسد مشهده المرسوم بعناية.
الشعب الأعزل يُوصَف بـ”الحيوانات البشرية” و”المسلّح”، والعدوان يُعنون بـ”الرّد والدفاع عن النفس”، ومئات الشهداء يُختزلون في خبرٍ عاجلٍ يمرّ كلّ يومٍ بلا مشاعر، بينما تُفتح ساعات البثّ والتغطية لمشهد صاروخٍ سقط في “صحراء النقب”، في منطقةٍ خالية.
لم يكن الإعلام في إمبراطوريته مرآة تعكس الواقع، بل عدسة مشوهة، تُصغّر المأساة إن كانت فلسطينية، وتُضخّم الحدث إن كان إسرائيلياً.
حتى أصبح، من شدة سطوته الإعلامية، معظم السياسيين في العالم يتملقونه؛ لا طمعاً في عدالة تغطيته، بل خوفاً من سيف التشويه الذي يشهره إعلامه ضد كل من يخرج عن رأيه أو الرواية المسموح بها. وبات رضاه في السياسة مقدماً على رضا الشعوب وصناديق الاقتراع.
لقد نجح مردوخ في صناعة ما يمكن تسميته بـ”دولة الإعلام العميقة”؛ دولة لا تملك حدوداً جغرافية، ولا علماً يرفرف، لكنها أقوى من كثير من الدول: قادرة على إسقاط الحكومات، وتشويه نضال الشعوب المقهورة، وتزييف التاريخ لحظة بلحظة.
وُلد مردوخ في أستراليا عام 1931، لأسرة متوسطة الحال كانت تملك صحيفة محلية واحدة فقط. لكنه لم يكتفِ بهذا الإرث المحدود، بل صنع مجده الإعلامي بيده، وتوسّع بسرعة مذهلة، حتى أصبح يملك شبكات وصحفاً لا تُعدّ ولا تُحصى، منها “فوكس نيوز”، و”ذا تايمز”، و”نيويورك بوست”، و”وول ستريت جورنال”، وغيرها من المؤسسات التي باتت تنطق بلسان السياسة الغربية والإسرائيلية على حد سواء.
لم يكن توسُّعه مجرد نجاح اقتصادي، بل كان غزواً ناعماً لعقول الشعوب، حيث حوّل مؤسساته الإعلامية إلى مصانع للرأي تُضلل الصورة الذهنية، وتشرّع الاحتلال، وتُسكت كل صوتٍ مخالف، وتسقط أي رئيس يعارضها.
مردوخ لم يُخفِ يوماً دعمه لإسرائيل، بل أعلنه صراحة في أكثر من مناسبة، وقال إن بقاء إسرائيل جزء من استقرار العالم. كما دعم التيارات المسيحية الصهيونية في أمريكا، تلك التي ترى في إسرائيل تحقيقاً لنبوءات دينية، وتؤمن بأن دعمها واجبٌ مقدس. وهذا التزاوج بين المال والإعلام والدين، جعل من مردوخ خطراً حقيقياً على الوعي العالمي.
ولم يكن هذا التأثير محصوراً في الغرب فقط، بل امتد إلى العالم العربي، حيث تسللت روايات إعلامه إلى وعي الشباب عبر المنصات العالمية، فشوّهت مفاهيم النضال العربي، وزرعت الشك في كل قضية عربية عادلة. أما على مستوى القرار السياسي، فقد أصبحت مؤسساته سيفاً يُشهر في وجه كل من يجرؤ على رفض الهيمنة أو انتقاد الاحتلال؛ فإما التماهي مع الرواية الصهيونية، أو التعرّض للتشويه والتشهير والسقوط السياسي. لقد تجاوز مردوخ دور الصحفي، ليصبح مهندساً للرأي ، وعرّاباً لخريطة النفوذ الإعلامي، والسيطرة على العقول عبر منصاته العابرة للقارات، في أخطر عملية تطويع ناعم يشهدها الرأي العام العالمي، خصوصاً الذهن العربي الذي بات الحلقة الأضعف في جبهة الوعي الإعلامي.
من خلال قنواته وصحفه، فرض مردوخ الرواية الإسرائيلية في كل بيت غربي. فحين تهاجم إسرائيل غزة، تتحول قنواته إلى أداة تبرير فورية وتسويق دعائي للقتل، وحين تشتعل الضفة وغزة وتُدمَّر، لا يُعرض من المشهد سوى صور الجنود الإسرائيليين الخائفين والمستوطنين الباكين. أما الفلسطيني المسحوق، فيُوصَف بالإرهابي والمتطرف، ويُنزع عنه كل بُعد إنساني أو شرعي.
ولا يكتفي مردوخ بتحريف الحقائق، بل يسهم في بناء رواية تبرّر العدوان على الضفة وغزة، وتُلغي معاناة الضحايا، ويجعل من الإعلام أداة احتلال نفسي تُشرك المشاهد في جريمة الصمت والتواطؤ، وتحوّل القضية الفلسطينية من حقٍّ مشروع إلى تهديد وسرطان يجب استئصاله.
فقد أصبح مردوخ، منذ أكثر من ستين عاماً، ليس فقط ناقلاً للأخبار، بل مهندساً لحرب فكرية لا تقل دموية عن الحروب المسلحة؛ يضع الإعلام في قبضة الاحتلال، ويعيد صياغة الحقيقة، ويتحكم في ضمائر ومشاعر الشعوب.
لم يكتفِ مردوخ بتقديم الدعم، بل جعل من منصاته منبراً حصرياً للمحللين الموالين لإسرائيل، والكتاب الذين يبررون العدوان ويهاجمون كل من يتعاطف مع الفلسطينيين. وأما من يجرؤ على انتقاد إسرائيل داخل تلك المؤسسات، فإما يُقصى أو يُشيطن أو يُتهم بمعاداة السامية، وفي الوقت نفسه يستقطب المعارضين للأنظمة العربية، مستغلاً خلافاتهم لتفتيت الصف العربي وإضعاف أي صوت موحّد يهدد أجندته الإعلامية.
هذا النموذج الإعلامي الذي صنعه مردوخ لنفسه ولقومه، رفع سقف التساؤلات لدي:لماذا لا يوجد لدينا رجل إعلام سعودي بمثل هذا التأثير؟ ولماذا لم نستطع إيصال قضيتنا العربية والفلسطينية إلى الشعوب الغربية بشكل ممنهج وفعّال عبر شبكة إعلام قوية؟
الإجابة مؤلمة: ظلّ الإعلام العربي حتى اليوم رهينة للتوجيه الداخلي، منشغلاً بالخُطب الرسمية، والبيانات الحكومية، والمسلسلات التركية، دون أن يطوّر أدواته، أو يخاطب الغرب بلغته وثقافته، أو ينافس في صياغة الوعي العالمي. فبقي أسيراً للرقابة، والبيروقراطية، وغياب الرؤية، وفقدان الجرأة.
حتى المشاريع الإعلامية العربية التي أُطلقت لمخاطبة العقل الغربي، كالقنوات الناطقة بالإنجليزية، جاءت خجولة، مكرّرة وسطحية، أو موجَّهة من أعلى، لا من قناعة استراتيجية حقيقية. ولهذا فشلت أو تلاشت أمام ماكينة مردوخ الجبّارة، التي تفهم جمهورها، وتخاطبه بمنطقه، وتغرس رسالتها في كل تفاصيل الخبر، والتحليل، والعناوين الرئيسية.
مردوخ فهم منذ وقت مبكر أن من يملك الطرح الإعلامي يملك القوة، وأن الإعلام أخطر من السلاح، وأقوى من الجيوش، بينما ما زلنا نحن ننتظر أن يتعاطف معنا العالم دون أن نخبره الحقيقة بصوتٍ واضح ومنصةٍ محترفة.
لقد كان من الممكن أن نواجه آلة الكذب المردوخية والصهيونية بإعلامٍ سعودي حرّ، جريء، وعالمي، يعكس معاناة الفلسطينيين بلغة حقوق الإنسان، ويربط نضالهم بالقيم الغربية نفسها. لكننا خسرنا كثيراً من المعارك، لأننا ببساطة لم ندخلها من الأساس، وتركنا الساحة للخصم ليحتكر الخطاب الإعلامي، ويشوّه صورتنا وصورة الضحية، ويبرّئ الجلاد، ويصنع وعياً عالمياً مزيفاً يُحاصرنا بالاتهام، ويمنح القتلة الصهاينة صكوك البراءة.
روبرت مردوخ لا يخشى الحقيقة، لكنه يتقن طمسها، وتغليفها، وتقديمها في قالب يخدم إسرائيل، ويقنع المشاهد الغربي بأن الاحتلال شرعي، وأن الضحية هي المعتدية، وأن الصمت فضيلة.
لن نكسر هذه الهيمنة إلا إذا تخلّينا عن عقلية الشكوى، وتحركنا لبناء أدوات تأثير حقيقية، تبدأ بالاعتماد على الذات، وتمتد إلى مخاطبة العالم بمنطقٍ يفهمه، لا بمنطقنا المحلي الباهت. وتكون رسالتنا واضحة لا تُحرّف، وحضارتنا حاضرة لا تُهدم. فإذا امتلكنا أدواتنا وصوتنا الحقيقي، فلن يبقى لهذه الهيمنة الإعلامية مكان.
ربما لن نملك مردوخاً عربياً غداً، لكننا نستطيع أن نبني إعلاماً حراً يصحح الصورة، ويعيد للحق مكانته، ويُسمع الرواية الفلسطينية في عقر دار الإعلام الغربي قبل فوات الأوان.
ولأننا لا نعيش في فراغ، فإن غياب المردوخ العربي لم يكن صدفة ولا عجزاً تقنياً، بل هو نتاج تراكم طويل من تهميش القوة الناعمة، وقتل الصوت الحر، وتعطيل كل مشروع إعلامي مستقل قد يُحرّك القضية الفلسطينية خارج الأسلاك الشائكة للرقابة الرسمية.
نحن لا نفتقر إلى العقول، ولا إلى اللغات، ولا إلى المال. نحن فقط نفتقر إلى الإرادة، إلى مشروع يتعامل مع الإعلام بوصفه سلاحاً استراتيجياً، لا رفاهيةً سطحية. نفتقر إلى الجرأة في مخاطبة الغرب بلغته، وبالمنطق الذي يؤمن به، دون أن ننزلق إلى التملق، أو الانفعال، أو الخطاب العاطفي المُستهلك. فالغرب لا يتأثر بالدموع، بل بالحقائق الموثقة، والصورة الموجهة، والخطاب المتقن.
لقد فعل مردوخ كل ما يمكن فعله ليجعل من إسرائيل “الضحية الأبدية” في ذهن المواطن الأمريكي والبريطاني والأوروبي، وجعل من الشعب الفلسطيني والعربي “إرهابياً” حتى قبل أن يُطلق رصاصة واحدة. لم يفعل ذلك بالبندقية، بل بالكاميرا، والميكروفون، والعنوان الرئيسي.
أما نحن، فحتى حين نملك الحقيقة، نتحدث بها في الخفاء، أو نوجّهها لأنفسنا، وكأننا صُمٌّ نُناقش مأساتنا خلف أبوابٍ مغلقة.
لو كان لدينا إعلامي سعودي واحد بفكر مردوخ، لعرف أن المعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على الصورة التي تُبث، والكلمة التي تُكتب، واللغة التي تُخاطب الضمير العالمي. ولعرف أيضًا أن كسب المعركة يبدأ من صياغة السؤال، قبل تقديم الإجابة. ولعلم أن إسرائيل تقوم على أسطورة إعلامية، لا على مشروعية حقيقية، وأن كسر تلك الأسطورة لا يحتاج إلى صاروخ، بل إلى عقلٍ يُجيد صناعة الرأي العام، كما يُجيد عدونا التلاعب به.
فيا أثرياؤنا، إن كنتم تبحثون عن إرثٍ يُخلّد أسماءكم، فاشتروا منبراً يصرخ بالحقيقة، أو امتلكوا هذه “الإمبراطورية” بأيّ ثمن؛ لا لتزيدوا أرصدتكم، بل لتخوضوا بها معركة الفكر، والوعي، والعدالة، وتكسروا بها الخطاب الإعلامي المنحاز، وتهدموا القصص المفبركة التي جعلت من الضحية جلاداً، ومن الجلاد صديقاً للغرب والحرية. فالتاريخ لا يخلّد الصامتين أبداً، بل يخلّد من امتلكوا الشجاعة لمواجهة الكذب بالحقيقة، والسلاح بالكلمة، والظلم والانحياز بالكرامة.
كاتب رأي
زادك الله توفيقاً وبركة
حقيقة مؤلمة قصور الاعلام العربي في نقل هموم الأمة
وتألق الاعلام الصهيوني ومنهم هذا العملاق الاسترالي الذي احتل عقول العالم بالكذب والزور والتضليل،
واكثر قنوات الاعلام العربي غارقة في هموم الرقص والطرب وانواع الطبخ
ممالذ وطاب رغم مآسي الأمة والشعب المحتل
والعقول المحتلة بالفراغ الممنهج لتألق حملة ظالمة أمام قصور قنوات تدار بعقلية اللامبالي وكثيرا
ما ينشر إنجازات وطنية لشباب عربي سعودي في قنوات خارجية وكأن التجاهل الإعلامي من اصول نجاح العمل ومهنيته ….
كثر الله أمثالك ونفع بما تكتب ،لقضايا تجاهلها كثير
وحسبنا الله ونعم الوكيل
لكل متعمد التقصير بواجبه
اخوكم / حزام الشهراني
سعادة الأخ الفاضل اللواء / حزام آل فاهده حفظكم الله ورعاكم.
بارك الله فيكم على هذا الرد الواعي، والموقف الصادق الذي ينطلق من غيرة حقيقية على ديننا وأمتنا وهويتنا.
كلماتكم لامست جرحا لا يُشفى، ونطقت بما يعجز كثيرون عن البوح به. نعم، لقد أصبح الإعلام العربي في كثير من جوانبه مرآة مشوشة لا تعكس هموم الأمة، ولا تنقل صوتها، بينما يواصل الإعلام الصهيوني والأدوات الغربية التغلغل في الوعي وتزييف الواقع بذكاء ومكر.
والمؤلم حقا أن شبابنا المتألقين بإنجازاتهم الوطنية يجدون التقدير خارج حدود إعلامهم، وكأن النجاح الحقيقي يجب أن يُهاجر ليُرى! إنها أزمة وعي، وأزمة أمانة، وتقصير لا يُغتفر في حق الوطن.
جزاكم الله خيرا على كلماتكم المشجعة، وأسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتكم، وأن يكثر من أمثالكم ممن يحملون هم الأمة، ويصدعون بها دون مواربة.
وتقبلوا فائق تحياتي واحترامي.
أخوكم / أبو سلطان