في ظلال المشهد المسرحي

.

قوية قوية، ودي اصدقك !!

قويه قويه.. ودي أصدقك! جملة مسرحية انطلقت من خشبة صغيرة لتستقر في ذاكرة جماهير واسعة، قالها الفنان الكويتي سعد الفرج في أحد عروضه، فخرجت من حدود المسرح لتصبح تعبيرًا دارجًا في المجتمعات العربية. ومن هنا نلمس الأثر العميق للمسرح حين يتجاوز حدود اللحظة ليصير جزءًا من لغة الناس ووعيهم الجمعي، إذ يكشف ذلك عن قيمة هذا الفن ودوره الحقيقي في تشكيل الوعي وإثارة الأسئلة. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: هل استطاع مسرحنا السعودي أن يستفيد من التجارب العربية الثرية، وأن يحوّل مبادراته المتفرقة إلى صناعة متكاملة؟

إن القول بأننا بدأنا حيث انتهى الآخرون لا ينصف التجربة المسرحية في المملكة، فالتاريخ يحكي عن مسار متجذر شهد عطاءً متنوعًا في الرياض والشرقية وجدة وجازان، في الفترات التي كان فيها المسرح الكويتي والمصري والسوري مزدهرًا. لم يكن المسرح السعودي مجرد ستار وخشبة، بل كان مختبرًا للأفكار ومنارة للوعي ومتنفسًا للفن والإبداع. ففي الرياض مثلًا، تكامل المسرح الحكومي والخاص في تقديم نصوص تناقش قضايا المجتمع، إلى جانب دورات تدريبية واحتفاء بالكتّاب والممثلين. وفي الشرقية احتضنت الخشبة الكلاسيكيات والحداثة معًا، لتصبح النصوص جزءًا من ذاكرة الجمهور عبر عروض متكررة. أما الغربية فكانت ولا تزال فضاءً يحتضن تنوعًا مسرحيًا من التراجيديا إلى الكوميديا، عبر مهرجانات سنوية تواصل فيها المسرح مع المجتمع والفكر. وهكذا صنعنا تراكمًا مسرحيًا يوازي ثراء هويتنا الثقافية.

لكن حين نعود إلى الحاضر نجد المسرح السعودي يسير في خطى صحيحة، إلا أنه بحاجة إلى نقلة نوعية تتجاوز المناسبات الاحتفالية. فما زالت الأسئلة الجوهرية مطروحة دون إجابات كافية: هل يوجد تنافس إبداعي حقيقي بين المسرحيين يطور النصوص والإخراج؟ هل أفرزت مسابقات التأليف المسرحي أعمالًا تعرض باستمرار على الخشبات؟ أين العروض الدورية التي يمكن أن تصل إلى الناس عبر القنوات الفضائية والمنصات الرقمية كما تفعل الدراما والسينما؟ والأهم من ذلك كله: أين المسارح التي يقبل عليها الجمهور طلبًا للترفيه والفكر معًا؟

ويتداخل في هذا المشهد سؤال آخر لا يقل أهمية: ما دور وزارة التعليم في تعزيز المسرح؟ فالمسرح ليس ترفًا تربويًا، بل وسيلة تربوية أصيلة تسهم في بناء شخصية متوازنة، وتغرس في الطلاب الجرأة على التعبير والقدرة على الحوار. إن غياب المسرح عن مدارسنا وجامعاتنا يعني إضاعة فرصة حقيقية لزرع بذور الإبداع في جيل كامل.

ورغم أن ما نراه من إعلانات ومسابقات ودورات تدريبية على منصات التواصل الاجتماعي يمثل جانبًا مشجعًا، إلا أنه يظل في كثير من الأحيان أقرب إلى الوعود منه إلى الفعل الملموس. فالمسرح يحتاج إلى أن تتحول هذه المبادرات إلى عروض حية متكررة، وإلى نصوص راسخة تعيد صياغة الوعي الجمعي، لا أن تبقى مجرد لحظات رمزية عابرة.

ولكي يتحول المسرح إلى صناعة راسخة، فإننا بحاجة إلى خطوات عملية، تبدأ ببناء مسارح حقيقية في المدن الكبرى والصغرى، وإنشاء معاهد أكاديمية متخصصة، واستقطاب خبرات محلية وعربية وعالمية للتدريب والتأهيل، ثم تحويل مسابقات التأليف إلى عروض تُعرض فعليًا أمام الجمهور. كما أن إدماج المسرح في المدارس والجامعات، وإنتاج عروض دورية تصل إلى البيوت عبر القنوات والمنصات الرقمية، سيجعل المسرح فعلًا مستمرًا لا مبادرة موسمية. عندها فقط يصبح المسرح ذاكرة حية وممارسة اجتماعية راسخة.

وفي هذا السياق، لا بد من توجيه شكر خاص لوزارة الثقافة على جهودها النوعية في إعادة الاعتبار للفنون، ومنها المسرح، فقد أطلقت مبادرات فتحت الآفاق ووفرت الدعم المادي والمعنوي واستقطبت الخبراء لتنمية المواهب المسرحية. ولذا لم يعد للمسرحيين عذر، فجميع الاحتياجات مهيأة ومهيكلة، وما بقي إلا أن تُترجم النصوص إلى عروض حية تثري المجتمع وتغذي ذاكرته الفنية.

إن المسرح ليس مجرد خشبة وستار، بل هو وعي جماعي وتجربة إنسانية وصوت أمة. وإذا أردنا لمسرحنا أن يكون حاضرًا وفاعلًا في المشهد الثقافي، فعلينا أن نمنحه مكانته الحقيقية في الوعي التربوي والمجتمعي، وأن نستفيد من التجارب العربية السابقة في الكويت ومصر وسوريا، لا لنكررها، بل لنتجاوزها ونبني تجربة سعودية أصيلة تضيف إلى المشهد العربي والإنساني. وحين يتحقق ذلك سنكون نحن الذين يفتحون الأفق ويضيئون الطريق.

(قوية قوية ودي أصدقك )  جملة مسرحية رددها الجمهور وبقيت مابقي الدهر .. وستظهر جملا أخرى إن فُعِّل المسرح جيدا، دمتم بخير .

بقلم د. عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب مسرحي

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي وخبر عاجل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى