كُتاب الرأي

تأملات في خسوف القمر: حكاية الغياب والعودة

تأملات في خسوف القمر: حكاية الغياب والعودة

في ليلة يسكنها السحر وتعلوها الدهشة، يتوشّح القمر برداءٍ نحاسي تحت ظل الأرض، معلنًا بداية مشهد كوني نادر. خسوف القمر ليس مجرد ظاهرة فلكية، إنما خطابٌ صامت يروي للإنسان حكاية الغياب والعودة.
في لحظة الخسوف، لا يكون القمر مجرد جرم سماوي يُحجب نوره مؤقتًا، لكنه يتحوّل إلى لوحة كونية مفعمة بالمعاني. يطلّ علينا بوجهٍ مائلٍ إلى الأحمر، وكأنه يروي قصة الضعف والقوة في آنٍ واحد، قصة الغياب المؤقت والعودة الحتمية.
الخسوف يذكّرنا بأن حتى أعظم الأجرام التي أضاءت ليل الإنسان، تمر بلحظاتٍ من العتمة. لكن العتمة هنا ليست نهاية، غير أنها استراحة قصيرة لوهجٍ لا ينطفئ. وكأن السماء تقول: النور قد يتوارى، لكنه لا يختفي.
إنه حدثٌ فلكي، لكنه أيضًا حدثٌ فلسفي، يعكس دورة الوجود: النور يجيء بعد الظلام، والأمل يتشكّل في قلب الغياب. وبينما يقف البشر مشدوهين تحت سماءٍ يوشّحها القمر النحاسي، يدركون أن الحياة ليست سوى خسوفٍ وكسوفٍ متعاقبين، وأن المجد لا يكتمل إلا إذا مرّ في طريقه بظلالٍ ثقيلة.
الخسوف ليس مشهدًا سماويًا فحسب، إنه درسٌ رمزيّ مفتوح على احتمالات التأويل: أن ما نحسبه نهاية، قد يكون بداية، وأن كل غيابٍ يحمل بين طياته وعدًا بالعودة.
في لحظة خسوف القمر، حين يتوارى ضوؤه خلف ظل الأرض، تتجلى أمام أعيننا صورة رمزية بليغة؛ صورة تذكّر الإنسان بأن النور قد يختفي عن البصر، لكنه لا يغيب عن الوجود.
هكذا هو الإيمان في حياة المؤمن: قد تحجبه العواصف، وقد تخفيه غيوم الابتلاء، بيد أنه يبقى حيًّا في القلب، مستعدًا للعودة أقوى وأصفى.
الخسوف حدث كوني، ومع ذلك ـ أيضًا ـ يعتبر مشهد إيماني عميق؛ فيه تذكير بأن الحياة ليست ضياءً دائمًا، إنما فيها ظلال وابتلاءات، كما قال تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”. غير أن المؤمن ينظر إلى هذه الظلال بعين اليقين، فيدرك أنها عابرة، وأن ما بعد الغياب إلا حضورٌ أوضح، وما بعد الضيق إلا فرجٌ أوسع.
تمامًا كما لا ينطفئ القمر في الخسوف، لكن يُحجب ضوؤه مؤقتًا، لا ينطفئ نور الإيمان في قلب المؤمن مهما ادلهمّت الخطوب. قال تعالى: “ومن يؤمن بالله يهد قلبه”، وكأن الخسوف يذكّرنا بأن الإيمان هو الضياء الداخلي الذي لا تطفئه ظلمة الأحداث ولا ثقل التجارب.
خسوف القمر ليس مجرد ظاهرة فلكية تُرصَد بالعين، بالتأكيد هو درسٌ سماوي يُقرأ بالبصيرة: أن الحياة مليئة بالاختبارات، ويتعين على المؤمن مواجهتها بقوة إيمانية تنبع من ثقته بالله. هذه القوة هي التي تجعل قلبه مطمئنًا حتى في أحلك اللحظات وأشدها قسوة، وتجعله يرى وراء كل ظلٍّ نورًا، وخلف كل غيابٍ عودة.
آخر الكلام

2 / 2
فكما يعود القمر ليضيء بعد كل خسوف، يعود المؤمن أكثر قوةً بعد كل امتحان، وأكثر إشراقًا بعد كل محنة. القوة الإيمانية ليست في غياب الخسوف عن حياتنا، على العكس من ذلك فإنها تتجلى في القدرة على تجاوزها بقلوب ثابتة، وأرواح واثقة وباليقين أن يد الله لا تغيب عن عباده.
فإذا رأيت القمر يغيب خلف ظل الأرض، فتذكّر أن النور لا يُمحى! هو يؤجَّل ليس إلا كما أننا نحن البشر، مثل القمر، لا نخسر بريقنا حقًا إلا إذا توقفنا عن الإيمان بعودته.

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى