الارتباك السردي بين الومضة والامتداد
الارتباك السردي بين الومضة والامتداد
أُقلب كتابًا كُتب على غلافه رواية، وما إن أغوص في صفحاته حتى أكتشف أنني أمام قصةٍ ممتدة تلهث لتُقنع نفسها بالاتساع. تتناثر المشاهد بلا جذور، وتتحرك الشخصيات في فراغٍ لا يُشيّد عالمًا سرديًا متماسكًا. لحظتها يتبدّد الوهم، ويطلّ السؤال: أين الرواية؟ وأين الوعي ببنيتها؟
هذه المفارقة تكشف عن خللٍ متزايد في إدراك الحدود بين الأجناس الأدبية. فالقصة القصيرة لحظة وعيٍ خاطفة تلتقط المشهد وتكتفي بإشعاله، بينما الرواية فضاءٌ يتسع للحياة بتعقيدها الزمني والإنساني. تحتاج إلى بناءٍ يربط التفاصيل بخيوطٍ داخلية تولّد المعنى وتُبقي النبض حيًا. وعندما يغيب هذا الوعي، يفقد النص اتزانه، فيتحول إلى ارتباك سردي يُبدّد انسجام التجربة.
كثير من الكتّاب ينساقون وراء لقب «الروائي» دون أن يمتلكوا أدوات هذا الفن. يظنون أن الإطالة تمنح العمل هيبته، فيمدّون القصة حتى تُرهق نفسها…
عندئذٍ النص يتسع شكلًا وينكمش جوهرًا، ويغدو تكرار المشاهد بديلاً عن العمق. تلك هي المسافة التي يتسرب منها الوهم: وهم الامتداد بلا روح.
دور النشر تسهم بدورها في ترسيخ هذا الالتباس. حين تقدّم النصوص بلا تمحيص، وتغري القارئ بعناوين براقة، تفقد الساحة النقدية معيارها. فالرواية لا تُقاس بعدد الصفحات، بل بقدرتها على خلق عالمٍ يُصدّق القارئ وجوده. النشر الواعي شريك في بناء الذائقة، وليس في تضليلها.
الكتابة وعيٌ قبل أن تكون حرفة. الكاتب الحقيقي لا يلهث وراء التصنيفات، بل ينصت إلى صوت النص وهو يتشكل. الرواية ليست حكاية طويلة، بل بناءٌ يتداخل فيه الفكر بالحسّ، والزمن باللغة، حتى يتجسّد الإنسان في كل مفصلٍ من مفاصله. حين يغيب هذا الاتساق، يغيب الفن نفسه.
في المشهد الإبداعي الراهن، يتكاثر الارتباك السردي كأحد أعراض العجلة في النشر والرغبة في الأضواء. لكن النصّ الذي يولد بلا وعيٍ بنسقه يفقد مكانه سريعًا. فالإبداع لا يرتهن بالتصنيف، وإنما بقدرته على تجسيد التجربة الإنسانية بصدقٍ واتساق.
القصة ومضة توقظ الحسّ، والرواية امتدادٌ يستوعب التحولات. بينهما فضاء دقيق لا يعبره إلا كاتب يدرك ماهية الشكل الذي يكتب به. إذا الكتابة في جوهرها مسؤولية، ومن يجهل شكلها يجهل نفسه فيها.
كاتبة رأي

